في عالم المحتوى الرقمي دائم التطور، تسعى منصة يوتيوب العملاقة باستمرار إلى تحسين تجربة مستخدميها البالغ عددهم المليارات، وفي الوقت نفسه، توفير أدوات فعالة لصناع المحتوى للوصول إلى جمهورهم وتنمية قنواتهم. مؤخرًا، أعلنت يوتيوب عن اختبار تغييرين هامين قد يعيدان تشكيل كيفية تفاعلنا مع المنصة: الأول هو اختبار ميزة “ذكية” لكتم الإشعارات الفورية من القنوات التي لم يعد المستخدم يتفاعل معها، والثاني هو تعديل جوهري في طريقة احتساب مشاهدات مقاطع الفيديو القصيرة (Shorts). تأتي هذه الخطوات في وقت تتزايد فيه المخاوف بشأن “الإرهاق الرقمي” وكثرة الإشعارات، وتشتد فيه المنافسة في ساحة الفيديو القصير مع منصات مثل تيك توك وإنستاجرام. يهدف هذا المقال إلى استكشاف هذين التحديثين بعمق، وتحليل دوافعهما، وتأثيراتهما المحتملة على المستخدمين العاديين وصناع المحتوى في العالم العربي، وكيف يعكسان سعي يوتيوب المستمر للتوازن بين إبقاء المستخدمين متفاعلين وتقديم مقاييس دقيقة وذات مغزى للمبدعين. سنغوص في تفاصيل ميزة كتم الإشعارات الجديدة، ونوضح التغيير في آلية حساب مشاهدات Shorts، ونناقش ردود الفعل الأولية والتوقعات المستقبلية لهذه التطورات الهامة.
ميزة كتم الإشعارات الجديدة: نحو تجربة أقل إزعاجًا وأكثر تركيزًا
لطالما كانت الإشعارات سلاحًا ذا حدين على يوتيوب. فبينما يعتمد عليها صناع المحتوى لإعلام متابعيهم بجديدهم، يشكو العديد من المستخدمين من طوفان التنبيهات الذي يغمر هواتفهم، خاصة عند الاشتراك في عدد كبير من القنوات وتفعيل خيار “كل الإشعارات”. هذا الخيار، الذي يروج له صناع المحتوى غالبًا، لا يقتصر على إرسال تنبيهات عند تحميل فيديوهات جديدة فقط، بل يشمل أيضًا البث المباشر والمشاركات المجتمعية وغيرها، مما قد يؤدي إلى شعور بالإزعاج والإرهاق الإشعاري.
تدرك يوتيوب هذه المشكلة جيدًا، وتشير إلى أن العديد من المستخدمين، بدلًا من تعديل إعدادات الإشعارات لكل قناة على حدة، يلجأون إلى الحل الأسهل والأكثر جذرية: تعطيل إشعارات تطبيق يوتيوب بالكامل من إعدادات الهاتف. هذا السلوك لا يؤثر فقط على القنوات المزعجة، بل يحرم المستخدم من تلقي تنبيهات من قنواته المفضلة بالفعل، ويضر بقدرة صناع المحتوى الآخرين على الوصول لجمهورهم.
لمعالجة هذا الوضع، بدأت يوتيوب مؤخرًا اختبار ميزة جديدة تستهدف المستخدمين الذين قاموا بتفعيل خيار “كل الإشعارات” لقناة معينة لكنهم لم يعودوا يتفاعلون مع محتواها بشكل منتظم. خلال هذا الاختبار المحدود، ستتوقف يوتيوب عن إرسال “الإشعارات الفورية” (Push Notifications) – تلك التي تظهر على شاشة قفل الهاتف أو كإشعار عائم – من هذه القنوات غير النشطة بالنسبة للمستخدم.
من المهم التأكيد على أن هذا لا يعني حجب الإشعارات تمامًا. ستظل جميع التنبيهات من القناة متاحة للمستخدم داخل “صندوق الوارد” الخاص بالإشعارات داخل تطبيق يوتيوب نفسه (أيقونة الجرس). الهدف هو تقليل المقاطعات الفورية غير المرغوب فيها، مع الحفاظ على إمكانية الوصول إلى التحديثات لمن يرغب في البحث عنها بوعي. كما استثنت يوتيوب من هذا الاختبار القنوات التي تنشر محتوى بشكل غير منتظم، لضمان عدم تفويت المستخدمين لتحديثات نادرة من قنوات قد تهمهم.
الدوافع والأهداف وراء اختبار كتم الإشعارات
تسعى يوتيوب من خلال اختبار ميزة كتم الإشعارات إلى تحقيق توازن دقيق بين عدة أهداف متضاربة أحيانًا. الهدف الأساسي والمعلن هو مكافحة “إرهاق الإشعارات” (Notification Fatigue) وتحسين تجربة المستخدم العامة على المنصة. من خلال تقليل عدد التنبيهات الفورية غير ذات الصلة أو غير المرغوب فيها، تأمل يوتيوب في جعل استخدام التطبيق تجربة أكثر هدوءًا وتركيزًا، مما قد يشجع المستخدمين على قضاء وقت أطول عليه دون الشعور بالإزعاج المستمر.
الهدف الثاني، وهو وثيق الصلة بالأول، هو منع المستخدمين من تعطيل إشعارات يوتيوب بشكل كامل. كما ذكرنا سابقًا، هذا السلوك يضر بالمنظومة البيئية للمنصة ككل، حيث يفقد صناع المحتوى قناة تواصل مهمة مع جمهورهم الأكثر ولاءً. تأمل يوتيوب أن يؤدي النهج “الذكي” لكتم الإشعارات غير النشطة إلى إقناع المستخدمين بعدم الحاجة إلى تعطيل النظام بأكمله، وبالتالي الحفاظ على فعالية الإشعارات للقنوات التي يتفاعلون معها بالفعل.
هناك أيضًا بعد استراتيجي يتعلق بالحفاظ على تفاعل المستخدمين. قد يبدو كتم الإشعارات متعارضًا مع هذا الهدف، لكن يوتيوب تراهن على أن تجربة المستخدم الأفضل على المدى الطويل ستؤدي إلى تفاعل أعمق وأكثر استدامة. المستخدم الذي لا يشعر بالإرهاق قد يكون أكثر ميلًا لفتح التطبيق بانتظام واستكشاف المحتوى، بدلًا من تجنبه بسبب كثرة التنبيهات.
بالنسبة لصناع المحتوى، قد يبدو هذا التحديث مقلقًا في البداية، حيث قد يخشون فقدان وسيلة للوصول إلى جزء من مشتركيهم. ومع ذلك، تطمئن يوتيوب بأن الميزة تستهدف فقط المشتركين غير المتفاعلين بالفعل، وأن الإشعارات للقنوات التي يتفاعل معها المستخدمون بانتظام لن تتأثر. علاوة على ذلك، إذا نجحت الميزة في منع المستخدمين من تعطيل الإشعارات بالكامل، فقد يستفيد صناع المحتوى على المدى الطويل من خلال الحفاظ على قناة اتصال مفتوحة مع جمهورهم الأكثر نشاطًا وتفاعلًا. يبقى التحدي في تحديد “عدم التفاعل” بدقة لضمان عدم كتم إشعارات مهمة للمستخدمين عن طريق الخطأ.
تغيير آلية احتساب المشاهدات في Shorts: نحو مقاييس موحدة
بالتوازي مع اختبارات الإشعارات، أعلنت يوتيوب عن تغيير مهم ومؤكد سيدخل حيز التنفيذ اعتبارًا من 31 مارس 2025، يتعلق بكيفية احتساب المشاهدات لمقاطع الفيديو القصيرة (Shorts). في السابق، كانت يوتيوب، على غرار فيديوهاتها الطويلة، تتطلب حدًا أدنى (وإن كان غير محدد بوضوح وقصيرًا) من وقت المشاهدة ليتم احتساب “مشاهدة” لمقطع Shorts. كان الهدف من ذلك ضمان أن المشاهدة تعكس درجة معينة من الاهتمام أو التفاعل المتعمد.
الآن، تلغي يوتيوب هذا الشرط تمامًا. بموجب النظام الجديد، سيتم احتساب “مشاهدة” لمقطع Shorts بمجرد بدء تشغيله، سواء كان ذلك تشغيلًا أوليًا أو إعادة تشغيل (replay). هذا يعني أنه حتى لو شاهد المستخدم جزءًا بسيطًا جدًا من الثانية قبل الانتقال للفيديو التالي، فسيتم تسجيل ذلك كمشاهدة.
السبب الرئيسي وراء هذا التغيير هو مواءمة مقاييس يوتيوب Shorts مع منافسيها الرئيسيين في ساحة الفيديو القصير، وهما تيك توك وإنستاجرام ريلز. كلا المنصتين تعتمدان بالفعل على “بدء التشغيل” كمقياس أساسي للمشاهدات. ترى يوتيوب أن توحيد هذا المقياس الأساسي سيساعد صناع المحتوى الذين ينشرون على منصات متعددة على فهم ومقارنة مدى وصول محتواهم بشكل أفضل وأسهل. فمع تجاوز كل من يوتيوب Shorts وتيك توك وإنستاجرام حاجز المليار مستخدم نشط شهريًا، أصبحت المقارنة المباشرة للأداء عبر المنصات أمرًا حيويًا للمبدعين والعلامات التجارية.
أكدت يوتيوب أن هذا التغيير سيؤدي على الأرجح إلى ارتفاع ملحوظ في أعداد المشاهدات المسجلة لمقاطع Shorts لدى صناع المحتوى. ومع ذلك، شددت المنصة على أن هذا التغيير لن يؤثر بشكل مباشر على أرباح صناع المحتوى أو على أهليتهم للانضمام إلى برنامج شركاء يوتيوب (YPP) أو استمرارهم فيه.
للحفاظ على مقياس يعكس تفاعلًا أعمق، ستحتفظ يوتيوب بالمقياس القديم (القائم على مدة مشاهدة معينة) تحت اسم جديد هو “المشاهدات التفاعلية” (Engaged Views). سيكون هذا المقياس متاحًا في الوضع المتقدم داخل تحليلات يوتيوب (YouTube Analytics)، وسيظل هو المقياس المستخدم لأغراض تحقيق الدخل وتقييم الأهلية لبرنامج الشركاء.
التأثير على صناع المحتوى واستراتيجياتهم
يحمل كل من تحديث الإشعارات وتغيير حساب مشاهدات Shorts آثارًا متباينة على صناع المحتوى في العالم العربي ويتطلب منهم تكييف استراتيجياتهم.
فيما يتعلق بكتم الإشعارات، قد يثير الاختبار قلق بعض المبدعين من انخفاض مدى الوصول الفوري لمحتواهم، خاصة أولئك الذين يعتمدون بشكل كبير على حثّ المشاهدين على تفعيل “كل الإشعارات”. ومع ذلك، يمكن النظر إليه كحافز لإنتاج محتوى أكثر جاذبية وتفاعلًا للحفاظ على اهتمام المشتركين النشط. القنوات التي تقدم قيمة مستمرة وتحافظ على تفاعل جمهورها بانتظام لن تتأثر سلبًا على الأرجح. بل قد تستفيد من بقاء الإشعارات فعالة لدى جمهورها الأساسي بدلًا من أن يتم تعطيلها بالكامل بسبب إزعاج قنوات أخرى. يجب على صناع المحتوى التركيز على بناء علاقة قوية مع جمهورهم وتشجيع التفاعل الحقيقي (التعليقات، الإعجابات، المشاركات) بدلًا من الاعتماد فقط على زر الإشعارات.
أما تغيير حساب مشاهدات Shorts، فيقدم صورة ذات وجهين. من ناحية، سيؤدي الارتفاع المتوقع في أعداد المشاهدات “العامة” إلى جعل مقاييس الوصول تبدو أفضل، وهو ما قد يكون مفيدًا عند التفاوض مع علامات تجارية أو وكالات تبحث عن الانتشار الواسع. كما أنه يسهل مقارنة الأداء الأولي عبر المنصات.
من ناحية أخرى، يجب على صناع المحتوى أن يكونوا حذرين من تفسير هذا الارتفاع على أنه زيادة حقيقية في الاهتمام أو التفاعل العميق. المقياس الأهم الذي سيظل يحدد النجاح الفعلي (بما في ذلك الأرباح) هو “المشاهدات التفاعلية”. لذا، يجب ألا ينصب التركيز فقط على جذب “بدء التشغيل” الأولي، بل على إنتاج محتوى قادر على الإمساك بانتباه المشاهد لثوانٍ كافية ليُحتسب كمشاهدة تفاعلية، وتشجيعه على الإعجاب والتعليق والمشاركة. قد يتطلب هذا تحسين الخطاف (hook) في بداية الفيديو، وتقديم قيمة سريعة ومكثفة، واستخدام عناصر بصرية وصوتية جذابة للغاية للحفاظ على المشاهدين لأطول فترة ممكنة في بيئة التمرير السريع. يجب على صناع المحتوى مراقبة كلا المقياسين (المشاهدات العامة والمشاهدات التفاعلية) لفهم أداء محتواهم بشكل شامل وتعديل استراتيجياتهم وفقًا لذلك.
الخلاصة
تعكس اختبارات يوتيوب الأخيرة بشأن كتم الإشعارات والتغيير في حساب مشاهدات Shorts سعيها المستمر لتحسين تجربة المستخدم ومواءمة مقاييسها مع معايير الصناعة. تهدف ميزة كتم الإشعارات للقنوات غير النشطة إلى تقليل الإزعاج ومنع المستخدمين من تعطيل التنبيهات بالكامل، مما قد يحافظ على فعالية الإشعارات للقنوات المفضلة على المدى الطويل. أما تغيير طريقة حساب مشاهدات Shorts لتعتمد على مجرد بدء التشغيل، فيوحد المقاييس مع تيك توك وإنستاجرام ويسهل مقارنة مدى الوصول الأولي، ولكنه يؤكد أيضًا على أهمية مقياس “المشاهدات التفاعلية” الجديد لتحقيق الدخل والنجاح الحقيقي. تتطلب هذه التغييرات من المستخدمين فهم كيفية عمل الإشعارات الجديدة، ومن صناع المحتوى التركيز على بناء تفاعل حقيقي وإنتاج محتوى جذاب قادر على الحفاظ على اهتمام المشاهدين في بيئة رقمية متزايدة التنافسية والضوضاء. في النهاية، تظل الجودة والتفاعل هما مفتاح النجاح على يوتيوب.
الأسئلة الشائعة (FAQs)
-
هل ستتوقف كل إشعارات يوتيوب إذا لم أتفاعل مع قناة؟
لا، الاختبار الحالي يركز فقط على إيقاف “الإشعارات الفورية” (التي تظهر على شاشة الهاتف) للقنوات التي اشتركت فيها بـ “كل الإشعارات” ولكنك لم تتفاعل معها مؤخرًا. ستظل جميع الإشعارات متاحة داخل صندوق الوارد في التطبيق. -
هل سيؤثر تغيير حساب مشاهدات Shorts على أرباحي كصانع محتوى؟
لا، أكدت يوتيوب أن التغيير لن يؤثر بشكل مباشر على الأرباح أو الأهلية لبرنامج شركاء يوتيوب. ستظل هذه الأمور تعتمد على مقياس “المشاهدات التفاعلية” (الذي يتطلب مدة مشاهدة معينة). -
لماذا غيرت يوتيوب طريقة حساب مشاهدات Shorts؟
السبب الرئيسي هو مواءمة مقاييسها مع منصات الفيديو القصير الأخرى مثل تيك توك وإنستاجرام، مما يسهل على صناع المحتوى مقارنة أداء محتواهم عبر المنصات المختلفة وفهم مدى وصولهم الأولي بشكل أفضل. -
ما هو الفرق بين “المشاهدات” و”المشاهدات التفاعلية” في Shorts بعد التحديث؟
“المشاهدات” (Views) الجديدة ستُحتسب بمجرد بدء تشغيل الفيديو أو إعادة تشغيله. أما “المشاهدات التفاعلية” (Engaged Views)، فهي المقياس القديم الذي يتطلب مشاهدة الفيديو لعدد معين من الثواني، وهو المقياس الذي سيُستخدم لحساب الأرباح والأهلية لبرنامج الشركاء. -
متى سيتم تطبيق هذه التغييرات بشكل كامل؟
تغيير حساب مشاهدات Shorts سيدخل حيز التنفيذ رسميًا في 31 مارس 2025. أما ميزة كتم الإشعارات فهي لا تزال قيد الاختبار لدى مجموعة محدودة من المستخدمين، ولا يوجد تأكيد رسمي حتى الآن حول موعد إطلاقها بشكل واسع.