نماذج OpenAI الجديدة للاستدلال: هل زادت الهلوسة مع تطور الذكاء؟

نماذج OpenAI الجديدة للاستدلال: هل زادت الهلوسة مع تطور الذكاء؟

يشهد عالم الذكاء الاصطناعي تطورات متسارعة، وتعتبر شركة OpenAI في طليعة هذا التقدم، خاصة مع إطلاقها نماذج لغوية كبيرة (LLMs) تتمتع بقدرات استدلالية محسنة تهدف لمحاكاة التفكير البشري في حل المشكلات المعقدة. تعد نماذج مثل GPT-4o و o1 و o3 بإمكانيات هائلة في مجالات متنوعة، من البرمجة المتقدمة وتحليل البيانات إلى البحث العلمي والتفاعل الإبداعي. ومع ذلك، يثير هذا التقدم سؤالاً مقلقاً وجوهرياً: هل أدت هذه القدرات الاستدلالية المعززة إلى زيادة ميل هذه النماذج إلى “الهلوسة” – أي تقديم معلومات خاطئة أو مختلقة بثقة تامة؟

تُعتبر الهلوسة تحديًا مستمرًا في تطوير نماذج الذكاء الاصطناعي، وهي ظاهرة تحدث عندما “تخترع” الأنظمة إجابات تبدو منطقية لكنها غير صحيحة أو غير مدعومة بالواقع. هذا المقال يغوص في أعماق هذه الإشكالية، مستكشفاً ما إذا كانت نماذج OpenAI الجديدة للاستدلال، رغم قوتها الظاهرية، تعاني بالفعل من معدلات هلوسة أعلى أو مختلفة عن سابقاتها. سنحلل الأدلة المتاحة، ونناقش الأسباب المحتملة وراء هذه الظاهرة، ونستعرض تأثيرها على المستخدمين، خصوصًا في العالم العربي الذي يشهد تبنيًا متزايدًا لتقنيات الذكاء الاصطناعي. سنقدم رؤى حول كيفية التعامل مع هذه التحديات والاستفادة من إمكانيات الذكاء الاصطناعي بمسؤولية ووعي.


فهم “الهلوسة” في نماذج الذكاء الاصطناعي

قبل الخوض في تفاصيل نماذج OpenAI الجديدة، من الضروري فهم ماهية “هلوسة الذكاء الاصطناعي”. لا يعني المصطلح أن الآلة ترى أو تسمع أشياء غير موجودة كما في الهلوسة البشرية، بل يشير إلى ميل نماذج اللغة الكبيرة (LLMs) لتوليد استجابات تبدو مقنعة ومنطقية، لكنها في الواقع غير صحيحة، مضللة، أو لا تستند إلى بيانات التدريب أو الواقع الفعلي. إنها أشبه بـ “اختلاق واثق” للحقائق.

تحدث الهلوسة لعدة أسباب متأصلة في طبيعة عمل هذه النماذج. أولاً، تعتمد نماذج LLMs على الاحتمالات الإحصائية لتوقع الكلمة التالية في تسلسل معين، بناءً على الأنماط التي تعلمتها من كميات هائلة من البيانات. هذا يجعلها بارعة في إنتاج نص لغوي متماسك وطبيعي، لكنها لا “تفهم” المحتوى أو تتحقق من صحته كما يفعل البشر. ثانيًا، قد تحتوي بيانات التدريب نفسها على أخطاء، تحيزات، أو معلومات قديمة، والتي يمكن للنموذج أن يتعلمها ويعيد إنتاجها. ثالثًا، قد تؤدي قيود معمارية النموذج أو استراتيجيات التنبؤ (التي قد تعطي الأولوية للطلاقة على الدقة) إلى توليد معلومات غير دقيقة. رابعًا، قد تؤدي المطالبات الغامضة أو المعقدة من المستخدم إلى دفع النموذج لتجاوز حدود معرفته “وتخمين” الإجابات. وأخيرًا، قد يكون هناك مفاضلة بين الإبداع والدقة؛ فالسماح للنموذج بأن يكون أكثر إبداعًا قد يزيد من احتمالية ابتعاده عن الحقائق الدقيقة.

تختلف الهلوسة عن الأخطاء البسيطة؛ فهي غالبًا ما تكون مقنعة ومفصلة، مما يجعل من الصعب على المستخدم العادي اكتشافها دون تدقيق. وهذا يمثل تحديًا كبيرًا للثقة في مخرجات الذكاء الاصطناعي.


نماذج OpenAI الجديدة وقدرات الاستدلال المحسنة

أحدثت OpenAI ضجة كبيرة بإطلاقها نماذج جديدة تركز بشكل خاص على تحسين قدرات “الاستدلال” (Reasoning). تشمل هذه النماذج GPT-4o (الذي يجمع بين قدرات النص والصوت والصورة في نموذج واحد) وسلسلة نماذج “o” مثل o1 و o3 (بنسخ مختلفة مثل mini و preview)، والتي تم تصميمها خصيصًا لمعالجة المشكلات المعقدة التي تتطلب تفكيرًا متعدد الخطوات ومنطقيًا.

يُقصد بالاستدلال في سياق الذكاء الاصطناعي قدرة النموذج على تحليل المعلومات، فهم العلاقات بين المفاهيم، تطبيق القواعد المنطقية، وحل المشكلات بطريقة تتجاوز مجرد استرجاع المعلومات أو مطابقة الأنماط. تهدف OpenAI من خلال هذه النماذج إلى الاقتراب خطوة أخرى من الذكاء الاصطناعي العام (AGI)، وهو نظام يتمتع بقدرات معرفية شبيهة بالبشر. يُروّج لهذه النماذج على أنها قادرة على التعامل مع مهام أكثر تعقيدًا في مجالات مثل الرياضيات، البرمجة، البحث العلمي، وحتى التخطيط الاستراتيجي. على سبيل المثال، يُظهر نموذج o1 قدرة ملحوظة على التفكير والتراجع لتحليل الخيارات قبل الوصول إلى الحل، وهو أقل عرضة للهلوسة أو الخطأ الواثق مقارنة بـ GPT-4o في بعض المهام. كما تم تصميم قدرات مثل “البحث العميق” (Deep Research) في ChatGPT، المدعومة بنسخة من نموذج o3، لتحليل وتجميع كميات هائلة من المعلومات من الإنترنت لإنجاز مهام بحثية معقدة.


الجدل حول زيادة الهلوسة: الأدلة والنقاش

على الرغم من الوعود بقدرات استدلالية فائقة، ظهرت تقارير ومؤشرات تثير القلق حول معدلات الهلوسة في هذه النماذج الجديدة، مما أدى إلى جدل حول ما إذا كانت هذه القدرات تأتي على حساب الدقة الواقعية.

  • الأدلة المؤيدة لزيادة الهلوسة: تشير تقارير داخلية وخارجية إلى أن نماذج الاستدلال الأحدث مثل o3 و o4-mini قد تظهر معدلات هلوسة أعلى من سابقاتها (مثل o1 أو GPT-4o) في بعض الاختبارات المعيارية. على سبيل المثال، في اختبار PersonQA الخاص بـ OpenAI (لقياس معرفة النموذج بالأشخاص)، وجد أن o3 يهلوس بنسبة 33%، وهو ضعف معدل o1 تقريبًا، بينما وصل معدل هلوسة o4-mini إلى 48%. كما أفادت مختبرات خارجية بأن o3 يميل إلى اختلاق عمليات يدعي أنه قام بها للوصول إلى الإجابة. حتى GPT-4o، الذي يُعتبر نموذجًا عامًا وليس مخصصًا للاستدلال بنفس درجة سلسلة “o”، أظهر معدلات هلوسة مقلقة في بعض الاختبارات؛ حيث أشارت OpenAI نفسها إلى أن معدل هلوسة GPT-4o على مقياس SimpleQA الداخلي بلغ 61.8%، وهو أعلى بكثير من نموذج GPT-4.5 الأحدث (37.1%) ولكنه أقل من o3-mini (80.3%). ويشارك المستخدمون والمطورون تجارب مماثلة عبر الإنترنت، مشيرين إلى أن GPT-4o قد يخترع معلومات أو روابط غير موجودة، أو يكون أكثر “ثرثرة” ومقاومة للتصحيحات مقارنة بـ GPT-4 Turbo.
  • الأدلة المضادة والفروق الدقيقة: من ناحية أخرى، تشير بعض المقارنات إلى تحسينات. نموذج GPT-4.5 (وهو أحدث من GPT-4o ولكنه أقل تركيزًا على الاستدلال المعقد من سلسلة “o”) يُقال إنه يهلوس أقل بكثير من GPT-4o (37.1% مقابل 61.8% على SimpleQA). كما يُذكر أن نموذج o1، رغم بطئه، أقل عرضة للهلوسة مقارنة بـ GPT-4o في مهام الاستدلال. قد لا تكون القضية مجرد “زيادة” في الهلوسة، بل ربما تغير في طبيعتها أو حدوثها في سياقات مختلفة. قد تكون النماذج الأقوى قادرة على معالجة مهام أكثر تعقيدًا، ولكن هذا التعقيد يفتح الباب أمام أنواع جديدة أو أكثر دقة من الأخطاء الواقعية. كما أن بعض التحسينات في جانب (مثل الاستدلال) قد تأتي على حساب جانب آخر (مثل الالتزام بالتعليمات بدقة أو تجنب اختلاق التفاصيل). تعترف OpenAI بأن فهم سبب زيادة الهلوسة مع تعقيد نماذج الاستدلال يتطلب المزيد من البحث.

الأسباب المحتملة لاستمرار/زيادة الهلوسة في نماذج الاستدلال

لماذا قد تستمر الهلوسة أو حتى تزداد في النماذج المصممة لتكون “أكثر ذكاءً”؟ هناك عدة عوامل محتملة:

  • تعقيد المهام: مهام الاستدلال بطبيعتها أكثر تعقيدًا وتتطلب خطوات منطقية متعددة. هذا يزيد من فرص ارتكاب الأخطاء أو الانحراف عن المسار الصحيح، حتى لو بدا الاستنتاج النهائي متماسكًا.
  • مفاضلات التصميم والتدريب: قد يكون هناك توتر متأصل بين تحسين القدرة على الاستدلال المجرد والحفاظ على الدقة الواقعية الصارمة. قد تؤدي عملية التدريب التي تركز على مكافأة التفكير متعدد الخطوات إلى جعل النموذج أكثر جرأة في “ملء الفراغات” أو افتراض معلومات غير مؤكدة. كما أن تقنيات مثل التعلم المعزز من ردود الفعل البشرية (RLHF)، المستخدمة لتحسين النماذج، قد تؤدي عن غير قصد إلى تفضيل الإجابات المقنعة على الإجابات الصحيحة دائمًا.
  • حدود البيانات: حتى مع مجموعات البيانات الضخمة، لا تزال هناك فجوات في المعرفة أو تحيزات متأصلة. عندما يواجه النموذج مهمة استدلالية تتطلب معلومات غير موجودة أو غامضة في بيانات تدريبه، قد يلجأ إلى الهلوسة.
  • طبيعة LLM الاحتمالية: في جوهرها، تظل هذه النماذج أدوات تنبؤ بالكلمات. حتى مع قدرات الاستدلال المضافة، فإن عملية توليد النص خطوة بخطوة يمكن أن تؤدي إلى انحرافات تراكمية عن الحقيقة.
  • التحسين المفرط لأهداف معينة: قد يؤدي تحسين النموذج بشكل مفرط لتحقيق أهداف معينة (مثل تقديم تفسيرات مفصلة أو إظهار “التفكير بصوت عالٍ”) إلى زيادة الإسهاب وزيادة خطر تضمين معلومات غير دقيقة.

التأثير على المستخدمين العرب والتطبيقات العملية

يمثل استمرار وتيرة الهلوسة، وربما زيادتها في بعض النماذج المتقدمة، تحديات وفرصًا للمستخدمين في العالم العربي:

  • تحديات الثقة والمعلومات المضللة: مع الاعتماد المتزايد على أدوات الذكاء الاصطناعي في التعليم، البحث، إنشاء المحتوى، وحتى اتخاذ القرارات التجارية، فإن خطر الحصول على معلومات خاطئة أو مضللة يزداد. يجب على المستخدمين العرب، مثل غيرهم، أن يكونوا أكثر وعيًا ونقدًا عند استخدام هذه الأدوات، وألا يأخذوا مخرجاتها كحقائق مطلقة.
  • الحاجة إلى التحقق: يصبح التحقق من المعلومات المقدمة من نماذج الذكاء الاصطناعي أمرًا ضروريًا، خاصة في المجالات الحساسة مثل الصحة، القانون، أو الشؤون المالية. يجب استخدام مصادر موثوقة أخرى لتأكيد صحة ما يقدمه الذكاء الاصطناعي.
  • تأثيرات على اللغة والثقافة: قد تكون الهلوسة أكثر شيوعًا أو صعوبة في الاكتشاف عند استخدام النماذج بلغات أقل تمثيلاً في بيانات التدريب، مثل اللغة العربية بلهجاتها المتعددة. قد تخترع النماذج مصطلحات غير موجودة، أو تسيء فهم السياقات الثقافية، أو ترتكب أخطاء ترجمة دقيقة.
  • فرص للابتكار (بحذر): بشكل مفاجئ، يرى بعض الباحثين أن هلوسة الذكاء الاصطناعي قد تكون مفيدة في سياقات معينة، مثل البحث العلمي وتطوير الأدوية، حيث يمكن أن تقترح أفكارًا أو هياكل جزيئية جديدة وغير متوقعة قد تؤدي إلى اكتشافات. ومع ذلك، يتطلب هذا استخدامًا حذرًا للغاية وإشرافًا بشريًا خبيرًا.

يجب على المستخدمين والمطورين في المنطقة العربية التركيز على بناء الوعي حول قيود هذه التقنيات، تطوير مهارات التفكير النقدي، والمطالبة بشفافية أكبر من الشركات المطورة حول أداء نماذجها ومعدلات الخطأ فيها.


الخاتمة

تمثل نماذج الذكاء الاصطناعي الجديدة من OpenAI، بقدراتها الاستدلالية المعززة، قفزة نوعية في تطور هذه التكنولوجيا. ومع ذلك، فإن الجدل حول ما إذا كانت هذه القوة المتزايدة مصحوبة بزيادة في “الهلوسة” يسلط الضوء على تحدٍ جوهري ومستمر. تشير الأدلة المختلطة إلى أن المشكلة معقدة؛ فبينما قد تُظهر بعض النماذج تحسنًا في الدقة في مهام معينة أو مقارنة بنماذج أقدم، يبدو أن نماذج الاستدلال الأكثر تطورًا قد تكون عرضة لمعدلات هلوسة أعلى أو أنواع جديدة من الأخطاء في سياقات أخرى.

الأسباب الكامنة وراء ذلك متعددة، تتراوح من تعقيد المهام نفسها، ومفاضلات التصميم، وقيود بيانات التدريب، إلى الطبيعة الاحتمالية الأساسية لنماذج اللغة الكبيرة. بالنسبة للمستخدمين في العالم العربي، يعني هذا ضرورة التعامل مع هذه الأدوات القوية بحذر ووعي نقدي. إن التحقق من المعلومات، وفهم قيود التكنولوجيا، وتجنب الاعتماد الأعمى على مخرجاتها، هي ممارسات أساسية للاستفادة من إمكانيات الذكاء الاصطناعي بأمان ومسؤولية.

في نهاية المطاف، يظل السعي لتحقيق التوازن بين القدرة والدقة، وبين الابتكار والموثوقية، هو التحدي الأكبر أمام مطوري الذكاء الاصطناعي والمستخدمين على حد سواء في رحلتهم نحو مستقبل أكثر ذكاءً.


الأسئلة الشائعة (FAQs)

  1. ما هي هلوسة الذكاء الاصطناعي؟
    هي ظاهرة توليد نماذج الذكاء الاصطناعي لمعلومات تبدو مقنعة ولكنها غير صحيحة، مضللة، أو لا تستند إلى الواقع أو بيانات التدريب.
  2. هل نماذج OpenAI الجديدة للاستدلال (مثل GPT-4o و o3) تهلوس أكثر؟
    الأمر معقد ومحل جدل. بعض الاختبارات والتقارير تشير إلى أن بعض نماذج الاستدلال الأحدث قد تظهر معدلات هلوسة أعلى في مهام معينة مقارنة بنماذج أقدم أو أقل تخصصًا، لكن النتائج تختلف حسب النموذج والمهمة والاختبار المعياري المستخدم. تعترف OpenAI بالحاجة لمزيد من البحث لفهم هذه الظاهرة.
  3. لماذا تستمر نماذج الذكاء الاصطناعي المتقدمة في الهلوسة؟
    الأسباب تشمل قيود بيانات التدريب (أخطاء، تحيزات، فجوات)، الطبيعة الاحتمالية للنماذج، تعقيد المهام الاستدلالية، المفاضلات بين الإبداع والدقة، وقيود معمارية النموذج.
  4. كيف يمكن للمستخدمين التعامل مع مشكلة هلوسة الذكاء الاصطناعي؟
    يجب على المستخدمين تطوير التفكير النقدي، التحقق دائمًا من المعلومات الهامة من مصادر موثوقة أخرى، فهم قيود التكنولوجيا، استخدام مطالبات واضحة ومحددة، وعدم الاعتماد بشكل أعمى على مخرجات الذكاء الاصطناعي، خاصة في القرارات الهامة.
  5. هل يمكن أن تكون الهلوسة مفيدة؟
    في بعض السياقات المحدودة جدًا، مثل البحث العلمي الإبداعي، قد تقترح الهلوسات أفكارًا غير متوقعة يمكن أن تكون نقطة انطلاق للابتكار، ولكن هذا يتطلب حذرًا شديدًا وإشرافًا خبيرًا.