في يوم الجمعة، الثامن والعشرين من مارس 2025، استيقظ العالم على وقع كارثة طبيعية مدمرة ضربت قلب جنوب شرق آسيا. زلزال عنيف بقوة 7.7 درجة على مقياس العزم (Mw) هزّ منطقة ساغينغ وسط ميانمار، مخلفاً وراءه دماراً هائلاً ومأساة إنسانية عميقة لم تشهدها البلاد منذ عقود طويلة، وامتدت آثاره لتطال دولاً مجاورة مثل تايلاند والصين. وقع الزلزال على عمق ضحل نسبياً (حوالي 10-24 كيلومترًا)، مما ضاعف من شدة الاهتزازات على السطح وزاد من حجم الكارثة. لم يكد يمر وقت قصير حتى تبعته هزة ارتدادية قوية بلغت قوتها 6.4 درجة، لتزيد من حالة الرعب والدمار. يأتي هذا المقال ليقدم تحليلاً شاملاً لهذا الحدث المأساوي، مستعرضاً أسبابه الجيولوجية، حجم الدمار البشري والمادي الذي خلفه، الجهود المبذولة للاستجابة للكارثة في ظل الظروف السياسية والأمنية المعقدة في ميانمار، والتحديات المستقبلية التي تواجه المنطقة في ظل استمرار النشاط الزلزالي. إن فهم أبعاد هذه الكارثة ضروري ليس فقط لميانمار وشعبها، بل للمجتمع الدولي بأكمله، لاستخلاص الدروس حول التأهب للكوارث وأهمية التضامن الإنساني.
طبيعة ميانمار الجيولوجية وصدع ساغينغ: أرض تحت التهديد المستمر
تقع ميانمار في واحدة من أكثر المناطق نشاطاً زلزالياً في العالم، وذلك بسبب موقعها الجغرافي الحرج عند نقطة التقاء وتفاعل عدة صفائح تكتونية رئيسية وفرعية، أبرزها الصفيحة الهندية والصفيحة الأوراسية والصفيحة البورمية الصغيرة (Burma microplate) وصفيحة سوندا. العامل الجيولوجي الأكثر تأثيراً والمسبب الرئيسي للزلازل المدمرة في البلاد هو “صدع ساغينغ” (Sagaing Fault). يمتد هذا الصدع الضخم لمسافة تزيد عن 1200 كيلومتر من الشمال إلى الجنوب تقريباً عبر وسط البلاد، ماراً بالقرب من مدن كبرى ومناطق مأهولة بالسكان مثل ماندالاي، نايبيداو، وحتى يانغون (العاصمة السابقة).
يُصنف صدع ساغينغ كصدع انزلاقي مضربي يميني (right-lateral strike-slip fault)، مما يعني أن الكتل الصخرية على جانبي الصدع تتحرك أفقياً بشكل موازٍ لبعضها البعض، حيث تتحرك الصفيحة الهندية (أو الصفيحة البورمية المرتبطة بها) شمالاً بالنسبة للصفيحة الأوراسية (أو صفيحة سوندا). تقدر سرعة هذه الحركة النسبية بحوالي 18 مليمترًا في السنة، وقد تصل إلى 49 مليمترًا في بعض التقديرات. هذه الحركة المستمرة تؤدي إلى تراكم هائل للطاقة والضغوط على طول الصدع. وعندما تتجاوز هذه الضغوط قوة الصخور، يحدث الانطلاق المفاجئ للطاقة على شكل زلزال.
تاريخياً، كان صدع ساغينغ مصدراً للعديد من الزلازل الكبيرة. شهدت الفترة بين عامي 1930 و 1956 نشاطاً ملحوظاً، حيث وقعت ستة زلازل بقوة 7 درجات أو أكثر. بعد ذلك، دخل الصدع في فترة هدوء نسبي سمحت بتراكم المزيد من الإجهاد تحت الأرض، والذي تم إطلاقه بشكل كارثي في زلزال مارس 2025. الطبيعة المستقيمة والطويلة للصدع تسمح بتمزقات واسعة النطاق، مما يؤدي إلى زلازل أكبر حجماً وأكثر تدميراً، خاصة وأنها غالباً ما تكون ضحلة العمق.
زلزال 28 مارس 2025: تفاصيل الكارثة وحجم الدمار
وقع الزلزال الرئيسي في الساعة 12:50 ظهراً بالتوقيت المحلي (06:20 بتوقيت غرينتش)، وكان مركزه السطحي يقع شمال غرب مدينة ساغينغ، بالقرب من ماندالاي، ثاني أكبر مدن ميانمار والقلب الثقافي والديني للبلاد. بلغت قوته 7.7 درجة، وهو رقم يضعه في مصاف الزلازل الكبرى عالمياً، مشابه في قوته لزلزال تركيا المدمر عام 2023. قدر الخبراء أن التمزق في الصدع امتد لمسافة تزيد عن 200 كيلومتر. بعد 12 دقيقة فقط، ضربت هزة ارتدادية عنيفة بقوة 6.4 درجة المنطقة نفسها، مما زاد من حجم الدمار وأصاب الناجين بالهلع.
كانت الآثار فورية ومدمرة. انهارت آلاف المباني السكنية، والمتاجر، والمعابد التاريخية، والجسور الحيوية، وأجزاء من الطرق السريعة الرئيسية. مدينة ماندالاي والمناطق المحيطة بها كانت الأكثر تضرراً، حيث تشير التقارير الأولية إلى أن نصف المباني في المدينة قد تضررت بشدة أو دمرت بالكامل. انهار فندق ومقهى ومبان سكنية متعددة الطوابق، مما أدى إلى محاصرة العشرات تحت الأنقاض. كما تضرر القصر الملكي التاريخي في ماندالاي. في منطقة ساغينغ، دمرت 80% من المباني في بعض البلدات. جسر “آفا” التاريخي الذي يربط إنوا بساغينغ انهار جزئياً.
لم تقتصر الأضرار على ميانمار وحدها. امتدت الموجات الزلزالية القوية لمسافات طويلة، وشعر بها السكان في تايلاند، الصين، بنغلاديش، الهند، وحتى كمبوديا. في العاصمة التايلاندية بانكوك، التي تبعد حوالي 1000 كيلومتر عن مركز الزلزال، انهارت ناطحة سحاب قيد الإنشاء مكونة من 33 طابقاً، مما أسفر عن مقتل وإصابة وفقدان العشرات، معظمهم من عمال البناء. أثار هذا الانهيار تساؤلات حول تأثير طبيعة التربة الرخوة في بانكوك (“تأثير الحوض”) على تضخيم الموجات الزلزالية وتأثيرها على المباني الشاهقة. كما تضررت مئات المنازل في مقاطعة يونان الصينية المتاخمة لميانمار.
الخسائر البشرية: أرقام مفجعة وتوقعات مقلقة
الأرقام الأولية للخسائر البشرية كانت صادمة وترسم صورة قاتمة للمأساة. حتى تاريخ 29 مارس 2025، أعلن المجلس العسكري الحاكم في ميانمار عن مقتل ما يزيد عن 1644 شخصاً وإصابة أكثر من 3400 آخرين، مع بقاء أكثر من 139 شخصاً في عداد المفقودين داخل ميانمار وحدها. تركزت معظم الوفيات والإصابات في مدينة ماندالاي ومنطقة ساغينغ. وفي تايلاند، أُعلن عن مقتل 10 أشخاص على الأقل وفقدان أكثر من 100 آخرين، معظمهم في موقع البرج المنهار في بانكوك.
ومع استمرار عمليات البحث والإنقاذ وإزالة الأنقاض، يُخشى أن ترتفع هذه الأرقام بشكل كبير. حذرت هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية (USGS)، بناءً على نماذج تقييم الكوارث، من أن عدد القتلى النهائي في ميانمار قد يتراوح بين 10 آلاف و 100 ألف شخص، وهو تقدير مرعب يعكس حجم الكارثة المتوقع. كما أشارت الهيئة إلى أن الخسائر الاقتصادية قد تصل إلى عشرات المليارات من الدولارات، وهو مبلغ قد يتجاوز الناتج المحلي الإجمالي لميانمار، مما ينذر بأزمة اقتصادية طويلة الأمد.
المستشفيات في المناطق المتضررة، وخاصة في ماندالاي ونايبيداو وساغينغ، غمرت بأعداد هائلة من الجرحى، وتواجه نقصاً حاداً في الإمدادات الطبية وأكياس الدم. مشاهد المصابين وهم يتلقون العلاج خارج أقسام الطوارئ المكتظة، والبحث اليائس عن المفقودين تحت الأنقاض، تبرز الحجم الهائل للمعاناة الإنسانية التي خلفها الزلزال.
الاستجابة للكارثة والتحديات: سباق مع الزمن وسط الصراع
فور وقوع الزلزال، بدأت جهود الاستجابة المحلية والدولية في محاولة لإنقاذ الأرواح وتقديم المساعدة للمتضررين. أعلن المجلس العسكري الحاكم في ميانمار حالة الطوارئ في ست مناطق هي الأكثر تضرراً، وأطلق زعيم المجلس، الجنرال مين أونغ هلاينغ، نداءً نادراً للمساعدة الدولية، داعياً “أي دولة وأي منظمة” لتقديم الدعم، وهو تحول عن سياسات سابقة كانت تتردد في قبول المساعدات الخارجية.
ومع ذلك، تواجه جهود الإغاثة تحديات هائلة. أولاً، حجم الدمار الهائل الذي لحق بالبنية التحتية يعرقل الوصول إلى المناطق المنكوبة. انهيار الجسور وتضرر الطرق السريعة الرئيسية، مثل طريق يانغون-نايبيداو-ماندالاي، يصعّب حركة فرق الإنقاذ وإيصال المساعدات. كما تسبب انهيار برج المراقبة في مطار العاصمة نايبيداو وتضرر مطار ماندالاي في تعطيل النقل الجوي في البداية.
ثانياً، الوضع السياسي والأمني المعقد في ميانمار يزيد من صعوبة المهمة. البلاد تشهد حرباً أهلية مستمرة منذ الانقلاب العسكري عام 2021، مما أضعف بالفعل نظام الرعاية الصحية وخدمات الطوارئ واستنزف موارد الدولة. هناك مخاوف من أن يعيق الصراع وصول المساعدات إلى جميع المناطق المتضررة، خاصة تلك التي تسيطر عليها جماعات المقاومة المسلحة. وفي خطوة لافتة، أعلنت “حكومة الوحدة الوطنية” المعارضة عن وقف إطلاق نار مؤقت من جانب واحد لمدة أسبوعين في المناطق المتضررة التي تسيطر عليها، بهدف تسهيل وصول المساعدات الإنسانية، ودعت الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية للتعاون.
بدأت المساعدات الدولية بالوصول، حيث أرسلت الصين فريق إنقاذ ومساعدات بقيمة 100 مليون يوان، وعرضت روسيا والولايات المتحدة وكوريا الجنوبية والهند وماليزيا ودول أخرى تقديم الدعم. كما استنفرت منظمة الصحة العالمية ومكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) جهودهم لتقديم المساعدة الطبية واللوجستية. لكن التحدي الأكبر يكمن في كيفية تنسيق هذه الجهود وضمان وصولها الفعال والسريع إلى المحتاجين في ظل الظروف الصعبة القائمة.
الخاتمة
يمثل زلزال ميانمار في مارس 2025 تذكيراً مؤلماً بقوة الطبيعة الهائلة والضعف البشري أمامها، خاصة في المناطق ذات النشاط الزلزالي العالي مثل تلك الواقعة على امتداد صدع ساغينغ. لقد كشفت الكارثة عن حجم الدمار الهائل الذي يمكن أن يحدثه زلزال كبير، ليس فقط في الأرواح والممتلكات، ولكن أيضاً في النسيج الاجتماعي والاقتصادي للبلاد.
أظهرت الساعات والأيام التي تلت الزلزال قصصاً مروعة عن الخسارة والمعاناة، ولكنها أيضاً أبرزت قصصاً عن الصمود والبحث اليائس عن ناجين وسط الأنقاض. الاستجابة الدولية، رغم التحديات، تبعث على الأمل، لكن الطريق نحو التعافي سيكون طويلاً وشاقاً، خاصة في بلد يعاني أصلاً من صراع داخلي طويل الأمد وبنية تحتية هشة.
إن كارثة ميانمار تستدعي وقفة عالمية للتضامن، ليس فقط من خلال المساعدات الإغاثية العاجلة، ولكن أيضاً من خلال دعم جهود إعادة الإعمار وتعزيز آليات التأهب للكوارث المستقبلية في ميانمار والمناطق المماثلة المعرضة للخطر. يبقى السؤال الأهم هو كيف يمكن للمجتمع الدولي وميانمار نفسها تجاوز الانقسامات السياسية والعمل معاً لمواجهة هذه الأزمة الإنسانية الهائلة وبناء مستقبل أكثر أماناً ومرونة.
الأسئلة الشائعة (FAQs)
-
ما سبب وقوع زلزال ميانمار في مارس 2025؟
-
وقع الزلزال نتيجة للحركة المفاجئة على طول صدع ساغينغ، وهو خط صدع رئيسي يفصل بين الصفيحة الهندية/البورمية والصفيحة الأوراسية/سوندا، حيث تتراكم الضغوط بسبب حركة الصفائح المستمرة.
-
-
ما هي قوة الزلزال وما مدى تأثيره؟
-
بلغت قوة الزلزال الرئيسي 7.7 درجة على مقياس العزم، وتلته هزة ارتدادية قوية بقوة 6.4 درجة. تسبب الزلزال في دمار واسع النطاق في وسط ميانمار، وخاصة حول ماندالاي وساغينغ، وأضرار كبيرة في تايلاند المجاورة، وشعر به سكان دول أخرى.
-
-
كم بلغ عدد الضحايا حتى الآن؟
-
حتى 29 مارس 2025، تجاوز عدد القتلى 1644 في ميانمار و 10 في تايلاند، مع آلاف الجرحى والمئات من المفقودين. لكن التقديرات تشير إلى أن العدد النهائي للقتلى قد يكون أعلى بكثير.
-
-
ما هي التحديات التي تواجه جهود الإغاثة؟
-
تشمل التحديات الرئيسية تضرر البنية التحتية (طرق وجسور ومطارات)، والحرب الأهلية المستمرة التي تعيق الوصول وتنسيق المساعدات، ونقص الإمدادات الطبية والموارد اللازمة لمواجهة حجم الكارثة.
-
-
هل ميانمار معتادة على الزلازل القوية؟
-
نعم، ميانمار تقع في منطقة نشطة زلزالياً بسبب صدع ساغينغ. وقد شهدت تاريخياً زلازل قوية، بما في ذلك ستة زلازل بقوة 7+ بين عامي 1930 و 1956، وزلازل أخرى في الأعوام 1912، 1991، و 2012. لكن زلزال 2025 يعتبر الأقوى منذ عقود.
-