في عالم يتسارع فيه تطور الذكاء الاصطناعي، برزت شركة “بيربلكسيتي إيه آي” (Perplexity AI) كمحرك بحث مبتكر يعتمد على الذكاء الاصطناعي لتقديم إجابات مباشرة ومدعومة بالمصادر، مما جذب المستخدمين الباحثين عن بديل لتجربة البحث التقليدية. تأسست الشركة عام 2022، وسرعان ما اكتسبت زخماً كبيراً، مقدرة قيمتها بمليارات الدولارات، ومقدمة نفسها كمنصة تركز على الدقة والموثوقية. ومع ذلك، أثارت تصريحات حديثة لرئيسها التنفيذي، أرافيند سرينيفاس، جدلاً واسعاً حول مستقبل نموذج عمل الشركة وعلاقته بخصوصية المستخدمين. كشف سرينيفاس عن خطط لتطوير متصفح ويب خاص بالشركة، ليس فقط لتعزيز تجربة البحث، بل لجمع بيانات المستخدمين “حتى خارج التطبيق” بهدف بناء ملفات تعريف دقيقة وتقديم “إعلانات شديدة التخصيص”. يثير هذا التوجه تساؤلات جوهرية حول الموازنة بين الابتكار التكنولوجي، استدامة نماذج الأعمال، وحق المستخدمين الأساسي في الخصوصية. يهدف هذا المقال إلى تحليل تصريحات سرينيفاس في سياقها، واستكشاف الآثار المترتبة على المستخدمين، خاصة في العالم العربي حيث يزداد الوعي بأهمية حماية البيانات الشخصية في العصر الرقمي.
1️⃣ جدل التصريحات: ماذا قال رئيس بيربلكسيتي التنفيذي بالضبط؟
جاءت التصريحات المثيرة للجدل خلال مقابلة أجراها أرافيند سرينيفاس في بودكاست “TBPN” في أواخر أبريل 2025. أوضح سرينيفاس أن أحد الأسباب الرئيسية وراء تطوير متصفح ويب جديد للشركة، والذي يحمل الاسم الرمزي “Comet” ومن المتوقع إطلاقه في مايو 2025، هو الرغبة في جمع بيانات أوسع نطاقاً عن المستخدمين. قال سرينيفاس: “هذا أحد الأسباب الأخرى التي جعلتنا نرغب في بناء متصفح، وهو أننا نريد الحصول على بيانات حتى خارج التطبيق لفهمك بشكل أفضل”. وأضاف أن استفسارات المستخدمين داخل تطبيق بيربلكسيتي الحالي غالباً ما تكون مرتبطة بالعمل ولا تعكس الصورة الكاملة لاهتماماتهم الشخصية أو عاداتهم الشرائية.
ولتوضيح الصورة، أشار سرينيفاس إلى أن معرفة “الأشياء التي تشتريها؛ أي الفنادق التي ترتادها؛ أي المطاعم التي تزورها؛ ما الذي تقضي وقتك في تصفحه” تقدم معلومات أكثر قيمة بكثير عن المستخدم. الهدف المعلن هو استخدام هذا “السياق الكامل لبناء ملف تعريف مستخدم أفضل”، ومن ثم، “ربما، كما تعلم، من خلال موجز الاكتشاف الخاص بنا، يمكننا عرض بعض الإعلانات هناك”. هذا الاعتراف الصريح بأن الهدف هو تتبع سلوك المستخدم عبر الويب لبيع إعلانات مخصصة للغاية هو ما أثار ردود فعل قوية ومخاوف بشأن الخصوصية.
2️⃣ نموذج عمل بيربلكسيتي الحالي مقابل الرؤية المستقبلية
حتى الآن، بنت بيربلكسيتي سمعتها على تقديم تجربة بحث مدعومة بالذكاء الاصطناعي تركز على الإجابات المباشرة والموثوقة، مع إبراز المصادر. نموذج عملها الرئيسي يعتمد على الاشتراك (Freemium). توفر الشركة إصدارًا مجانيًا يستخدم نماذج لغوية أقل تطوراً (مثل GPT-3.5)، ونسخة مدفوعة “Pro” (بسعر حوالي 20 دولارًا شهريًا) تتيح الوصول إلى نماذج أكثر قوة (مثل GPT-4، Claude 3.5، ونماذج بيربلكسيتي الخاصة)، بالإضافة إلى ميزات متقدمة أخرى.
هذا النموذج، إلى جانب تأكيد الشركة على عدم تأثر الإجابات بالمعلنين (حتى مع بدء تجربة أشكال إعلانية محدودة وغير تطفلية في أواخر 2024)، وضع بيربلكسيتي كبديل محتمل يركز على الجودة وتجربة المستخدم مقارنة بمحركات البحث التقليدية المثقلة بالإعلانات.
لكن تصريحات سرينيفاس تكشف عن رؤية مستقبلية قد تتعارض مع هذا التموضع. الحديث عن متصفح مخصص لتتبع شامل للبيانات بهدف عرض إعلانات “شديدة التخصيص” يشير إلى تحول محتمل نحو نموذج يعتمد بشكل كبير على الإعلانات، شبيه بنموذج جوجل الذي تعتمد عليه في متصفح Chrome. اعترفت الشركة سابقًا بأن الاشتراكات وحدها قد لا تكون كافية لتوليد إيرادات مستدامة، خاصة مع خطط مشاركة الإيرادات مع الناشرين الذين تُستخدم محتوياتهم في الإجابات. يبدو أن المتصفح الجديد هو الأداة لتحقيق هذا الهدف الإعلاني على نطاق واسع.
3️⃣ تداعيات الخصوصية: “تتبع كل شيء” ومخاوف المستخدمين
إن عبارة “الحصول على بيانات حتى خارج التطبيق” و”تتبع كل شيء” تثير قلقًا كبيرًا. هذا يعني أن المتصفح الجديد، “Comet”، قد يراقب سجل التصفح، عمليات الشراء عبر الإنترنت، المواقع التي تمت زيارتها، وربما حتى بيانات الموقع والتفاعلات الأخرى عبر الويب. الهدف هو بناء “ملف تعريف مستخدم” شامل يتجاوز مجرد استفسارات البحث.
هذا النهج يضع بيربلكسيتي في نفس المسار الذي سلكته شركات التكنولوجيا الكبرى مثل جوجل وميتا (فيسبوك)، والتي واجهت تدقيقًا مكثفًا وانتقادات بسبب ممارسات جمع البيانات الواسعة النطاق. بينما يجادل سرينيفاس بأن المستخدمين قد يتقبلون هذا التتبع مقابل الحصول على إعلانات أكثر صلة، فإن هذا الافتراض يتجاهل القلق المتزايد لدى الجمهور بشأن الخصوصية الرقمية. في الولايات المتحدة وأوروبا، تزداد شكوك المستخدمين تجاه شركات التكنولوجيا الكبرى، وهناك طلب متزايد على الشفافية والتحكم في البيانات الشخصية.
المفارقة هنا أن بيربلكسيتي اكتسبت جزءًا من جاذبيتها الأولية كبديل يركز على الخصوصية مقارنة بجوجل. التحول نحو نموذج تتبع مكثف قد ينفّر قاعدة المستخدمين الأساسية ويضر بسمعة العلامة التجارية التي عملت بجد لبنائها.
4️⃣ الموازنة الصعبة: بين الذكاء الاصطناعي المجاني والإعلانات الموجهة
تكمن جذور هذا التوجه في التحدي الاقتصادي الأساسي لتشغيل خدمات الذكاء الاصطناعي المتقدمة. تتطلب نماذج اللغة الكبيرة قوة حوسبة هائلة وتكاليف تشغيل باهظة. تقدر بعض التقارير تكلفة تشغيل ChatGPT بمئات الآلاف من الدولارات يوميًا. بالنسبة لشركة ناشئة مثل بيربلكسيتي، حتى مع التمويل الكبير الذي حصلت عليه (بلغت قيمتها أكثر من 9 مليارات دولار في أواخر 2024)، فإن الاعتماد على الاشتراكات وحدها قد لا يكون كافيًا لتحقيق الربحية والاستدامة على المدى الطويل، خاصة مع وجود نسبة كبيرة من المستخدمين يعتمدون على النسخة المجانية.
لذلك، يُنظر إلى نموذج الإعلانات الموجهة كآلية تمويل شائعة للخدمات الرقمية المجانية. الفكرة هي أن المستخدمين “يدفعون” مقابل الخدمة من خلال بياناتهم، والتي تُستخدم لبيع إعلانات أكثر فعالية للمعلنين. يرى سرينيفاس أن الإعلانات “شديدة التخصيص” الناتجة عن التتبع الشامل ستكون ذات قيمة كافية للمستخدمين لقبول المقايضة. ومع ذلك، يبقى السؤال مفتوحًا حول مدى استعداد المستخدمين لقبول هذا المستوى من التتبع من شركة قدمت نفسها سابقًا كبديل يركز على تجربة المستخدم النظيفة وغير المتحيزة.
5️⃣ ردود الفعل وتوضيحات الشركة المحتملة
أثارت تصريحات سرينيفاس ردود فعل سريعة ونقدية في مجتمع التكنولوجيا والمدافعين عن الخصوصية. وُصفت الخطوة بأنها محاولة لـ “أن تصبح جوجل” وأنها تتناقض مع الوعود السابقة بالتركيز على تجربة المستخدم. المفارقة لم تغب عن الملاحظين، حيث تأتي هذه التصريحات في وقت تواجه فيه جوجل نفسها دعوى قضائية ضخمة من وزارة العدل الأمريكية تتهمها بممارسات احتكارية في البحث والإعلانات، مع احتمال إجبارها على بيع متصفح Chrome. ومن اللافت أن بيربلكسيتي كانت من بين الشركات التي أبدت اهتمامًا بشراء Chrome إذا تم عرضه للبيع.
حتى الآن، لم تصدر بيربلكسيتي توضيحًا رسميًا مفصلاً بعد هذه المقابلة الأخيرة. ومع ذلك، في تصريحات سابقة حول تجارب الإعلانات الأولية (نوفمبر 2024)، أكدت الشركة أن الإعلانات لن تؤثر على حيادية الإجابات وأنها لن تشارك بيانات المستخدمين الشخصية مع المعلنين. يبقى أن نرى كيف ستوفق الشركة بين هذه التأكيدات وبين خطط التتبع الشامل التي كشف عنها رئيسها التنفيذي لمتصفح Comet. قد تضطر الشركة إلى تقديم المزيد من الشفافية وخيارات تحكم أوضح للمستخدمين إذا أرادت الحفاظ على ثقتهم.
6️⃣ الأهمية للمستخدم العربي: الوعي التقني وحماية البيانات
تكتسب هذه التطورات أهمية خاصة للمستخدمين في العالم العربي. مع النمو المتسارع للقطاع الرقمي وزيادة الاعتماد على الأدوات التكنولوجية في المنطقة، يتزايد أيضًا الوعي بأهمية الخصوصية وحماية البيانات الشخصية. المستخدمون العرب، مثل نظرائهم حول العالم، يبحثون عن خدمات تحترم خصوصيتهم وتوفر لهم تحكمًا في بياناتهم.
تعتبر قضية بيربلكسيتي تذكيرًا بأن وعود الشركات الناشئة المبتكرة قد تتغير مع سعيها لتحقيق الاستدامة المالية. يجب على المستخدمين في المنطقة أن يكونوا يقظين بشأن سياسات الخصوصية وشروط الخدمة، وأن يدركوا المقايضات التي قد يقدمونها عند استخدام الخدمات المجانية. كما يسلط الضوء على أهمية وجود بدائل متنوعة في السوق تتيح للمستخدمين الاختيار بناءً على أولوياتهم، سواء كانت الأداء، الميزات، أو حماية الخصوصية. يشجع هذا الجدل المستخدمين على التفكير النقدي في الأدوات التي يستخدمونها والمطالبة بمزيد من الشفافية والمساءلة من شركات التكنولوجيا.
خاتمة
تمثل تصريحات الرئيس التنفيذي لشركة بيربلكسيتي حول خطط تتبع المستخدمين عبر متصفح “Comet” لتقديم إعلانات شديدة التخصيص نقطة تحول محتملة للشركة التي قدمت نفسها كبديل مبتكر وموثوق لمحركات البحث التقليدية. يكشف هذا التوجه عن التوتر الكامن بين توفير خدمات ذكاء اصطناعي متقدمة مجانًا أو بتكلفة منخفضة وبين الحاجة إلى نماذج أعمال مستدامة، غالبًا ما تعتمد على بيانات المستخدمين.
في حين أن منطق العمل وراء جمع البيانات للإعلانات الموجهة مفهوم في سياق اقتصاد الإنترنت الحالي، فإن الصراحة التي تم بها الإعلان عن خطط التتبع الشامل أثارت مخاوف جدية بشأن الخصوصية وقد تهدد الثقة التي بنتها بيربلكسيتي مع مستخدميها.
بالنسبة للمستخدمين، وخاصة في العالم العربي حيث ينمو الوعي الرقمي، تعد هذه القضية دعوة لليقظة والتقييم المستمر للأدوات الرقمية التي نعتمد عليها. يجب الموازنة بين فوائد التكنولوجيا والمخاطر المحتملة على خصوصيتنا، والمطالبة بالشفافية والتحكم في بياناتنا الشخصية. مستقبل بيربلكسيتي، ومستقبل البحث المدعوم بالذكاء الاصطناعي بشكل عام، سيعتمد بشكل كبير على كيفية إدارة هذه الموازنة الدقيقة بين الابتكار والربح واحترام المستخدم.
قسم الأسئلة الشائعة (FAQs)
س1: ما هو التصريح الرئيسي الذي أدلى به رئيس بيربلكسيتي التنفيذي؟
ج: صرح أرافيند سرينيفاس بأن الشركة تطور متصفحًا جديدًا (Comet) بهدف جمع بيانات المستخدمين خارج تطبيق بيربلكسيتي لإنشاء ملفات تعريف مفصلة وتقديم إعلانات شديدة التخصيص.
س2: هل تقوم بيربلكسيتي حاليًا بتتبع شامل لبياناتي؟
ج: نموذج عمل بيربلكسيتي الحالي يعتمد بشكل أساسي على الاشتراكات، مع تجارب إعلانية محدودة. خطط التتبع الشامل مرتبطة بالمتصفح الجديد “Comet” الذي لم يتم إطلاقه بعد (متوقع في مايو 2025).
س3: لماذا تريد بيربلكسيتي تتبع المستخدمين؟
ج: الهدف المعلن هو فهم اهتمامات المستخدمين بشكل أفضل لتقديم إعلانات أكثر صلة، مما يساعد على تمويل عمليات الشركة وتكاليف تشغيل الذكاء الاصطناعي، حيث قد لا تكون الاشتراكات وحدها كافية.
س4: كيف يختلف هذا عن نموذج جوجل؟
ج: يبدو النهج المعلن مشابهًا جدًا لنموذج جوجل كروم، حيث يُستخدم المتصفح لجمع بيانات التصفح لدعم الأعمال الإعلانية الواسعة للشركة. هذا يمثل تحولًا عن الصورة الأولية لبيربلكسيتي كبديل يركز على الخصوصية.
س5: ما هي المخاوف الرئيسية المتعلقة بهذا التوجه؟
ج: المخاوف الرئيسية تتعلق بانتهاك خصوصية المستخدمين، وجمع كميات هائلة من البيانات الشخصية دون موافقة واضحة أو تحكم كافٍ، وتعارض هذا النهج مع سمعة بيربلكسيتي الأولية.