في عالم التكنولوجيا الذي لا يتوقف عن الحركة والتغيير، شهدت السنوات الأخيرة تحولًا زلزاليًا في موازين القوى بين عمالقة وسائل التواصل الاجتماعي. لعقد من الزمان، تربعت إمبراطورية “ميتا” (فيسبوك سابقًا) على عرش هذا العالم بلا منازع، بفضل شبكتها الواسعة التي تضم فيسبوك، إنستغرام، وواتساب. لكن ظهور منافس شرس وغير متوقع، “تيك توك”، قلب الطاولة رأسًا على عقب، مهددًا هيمنة ميتا وجاذبًا انتباه المليارات، خاصة من فئة الشباب. المفاجأة الأكبر لم تكن فقط في صعود تيك توك الصاروخي، بل في الاعتراف النادر والمباشر من مؤسس ميتا ورئيسها التنفيذي، مارك زوكربيرج، بأن هذا التطبيق الصيني كان له تأثير مباشر وكبير في إبطاء نمو شركته العملاقة. هذا المقال يغوص في تفاصيل هذا الاعتراف الصادم، ويحلل أبعاد المنافسة الشرسة بين ميتا وتيك توك، ويستعرض استراتيجيات ميتا للرد، ويستشرف مستقبل هذا الصراع المحتدم الذي يعيد تشكيل مشهد التواصل الرقمي العالمي وتأثيره على المستخدمين في العالم العربي وخارجه.
1️⃣ صعود تيك توك الصاروخي: التحدي الذي لم تتوقعه ميتا
لم يأتِ صعود تيك توك من فراغ. التطبيق، الذي تملكه شركة “بايت دانس” الصينية، بدأ كمنصة لمقاطع الفيديو القصيرة والمزامنة الشفوية (lip-syncing) بعد استحواذها على تطبيق Musical.ly في 2017 ودمجه مع تيك توك في العام التالي. لكن سرعان ما تحول إلى ظاهرة ثقافية عالمية. سر نجاح تيك توك يكمن في خوارزميته الفريدة والمسببة للإدمان، المعروفة بـ “صفحة لك” (For You Page). هذه الخوارزمية لا تعتمد بشكل أساسي على شبكة الأصدقاء والمتابعين كما في فيسبوك وإنستغرام، بل تقدم للمستخدمين تيارًا لا نهائيًا من المحتوى المصمم خصيصًا لاهتماماتهم، بناءً على تفاعلاتهم وسلوكياتهم داخل التطبيق.
هذا النهج القائم على “الاكتشاف” (discovery engine) بدلاً من “الشبكة الاجتماعية” التقليدية، جذب بشكل خاص جيل الشباب (Gen Z) وجيل الألفية، الذين وجدوا فيه مساحة للتعبير الإبداعي والترفيه السريع والمشاركة في التحديات الرائجة (trends). وصل تيك توك إلى مليار مستخدم نشط شهريًا في عام 2021، وهو إنجاز استغرق نصف الوقت الذي احتاجته فيسبوك أو إنستغرام لتحقيقه. أصبح التطبيق الأكثر تنزيلًا في العالم لسنوات متتالية، والأول من خارج عائلة ميتا الذي يتجاوز 3 مليارات عملية تنزيل. هذا النمو الهائل لم يكن مجرد إضافة لاعب جديد إلى الساحة، بل كان تهديدًا مباشرًا لوقت المستخدمين واهتمامهم، وهما العملة الأثمن في اقتصاد الانتباه الرقمي.
2️⃣ لحظة الحقيقة: اعتراف زوكربيرج وتأثيره على الأسواق
جاء الاعتراف الأكثر وضوحًا من مارك زوكربيرج بتأثير تيك توك خلال شهادته في محاكمة مكافحة الاحتكار التي رفعتها لجنة التجارة الفيدرالية الأمريكية (FTC) ضد ميتا في أبريل 2025. وصف زوكربيرج تيك توك بأنه منافس يمثل “أولوية قصوى” وتهديدًا تنافسيًا “ملحًا للغاية” منذ ظهوره بقوة في عام 2018. الأهم من ذلك، أقر زوكربيرج بشكل مباشر بأن شعبية تيك توك كان لها تأثير ملموس على أداء شركته، قائلًا: “نمونا تباطأ بشكل كبير”.
لم تكن هذه المرة الأولى التي يلمح فيها زوكربيرج إلى تحدي تيك توك. في مكالمات أرباح سابقة، خاصة خلال عام 2022 الذي شهد تراجعًا حادًا في سعر سهم ميتا، أشار إلى المنافسة المتزايدة في مجال الفيديو القصير. لكن شهادته الأخيرة أمام القضاء الفيدرالي كانت الأكثر صراحة وتأكيدًا لحجم التحدي. هذا الاعتراف لم يكن مجرد إقرار بالمنافسة، بل كان تأكيدًا على أن تيك توك نجح فعلاً في اقتطاع حصة كبيرة من انتباه المستخدمين وإيرادات الإعلانات المحتملة من ميتا. كان لهذا الاعتراف، بالإضافة إلى عوامل أخرى مثل تغييرات خصوصية آبل (ATT) والظروف الاقتصادية، تأثير واضح على ثقة المستثمرين وتقييم السوق لشركة ميتا في فترات سابقة.
3️⃣ كيف أثر تيك توك على منتجات ميتا؟ (فيسبوك وإنستغرام)
لم يكن تأثير تيك توك مجرد رقم في تقارير النمو، بل امتد ليؤثر بشكل مباشر على تجربة المستخدم داخل تطبيقات ميتا الأساسية، فيسبوك وإنستغرام. بدأ المستخدمون، وخاصة الفئات العمرية الشابة، يقضون وقتًا أقل على منصات ميتا، مفضلين قضاء ساعات في تصفح مقاطع الفيديو القصيرة والممتعة على تيك توك. هذا التحول في سلوك المستخدمين كان له تداعيات خطيرة:
-
تراجع وقت المشاهدة والمشاركة: لاحظت ميتا انخفاضًا في الوقت الذي يقضيه المستخدمون داخل تطبيقاتها، وتحديدًا في استهلاك المحتوى التقليدي مثل المنشورات النصية والصور.
-
تحديات في جذب الشباب: أصبح الحفاظ على جاذبية فيسبوك وإنستغرام للشباب تحديًا كبيرًا، حيث بدت هذه المنصات أقل حيوية وإثارة مقارنة بالطاقة الإبداعية والتفاعلية لتيك توك.
-
الضغط على نموذج الإعلانات: يعتمد نموذج أعمال ميتا بشكل كبير على الإعلانات المدمجة في الخلاصات (Feeds) والقصص (Stories). شكل تحول المستخدمين نحو الفيديو القصير تحديًا في تحقيق الدخل من هذا التنسيق الجديد بنفس الكفاءة، حيث كانت إعلانات الفيديو القصير (مثل Reels) أقل ربحية في البداية مقارنة بالإعلانات التقليدية.
-
تغيير استراتيجي في تعريف المنصة: أقر زوكربيرج نفسه بأن وظيفة تطبيقات التواصل الاجتماعي تتغير، حيث أصبحت تعمل “كمحركات اكتشاف” للمحتوى أكثر من كونها مجرد أدوات للتواصل مع الأصدقاء والعائلة. هذا يعكس بشكل مباشر تأثير نموذج تيك توك القائم على الخوارزميات.
استجابة لهذا الضغط، بدأت ميتا في تغيير تصميم تطبيقاتها بشكل جذري، مع التركيز بشكل متزايد على توصيات المحتوى الخوارزمية والفيديو القصير، حتى لو كان ذلك على حساب التفاعلات الاجتماعية التقليدية التي بنت عليها نجاحها الأولي.
4️⃣ سلاح ميتا المضاد: “ريلز” ومحاولات استعادة الصدارة
لم تقف ميتا مكتوفة الأيدي أمام زحف تيك توك. كانت استراتيجيتها الرئيسية للرد هي إطلاق ميزة “ريلز” (Reels) على إنستغرام في أغسطس 2020، ثم توسيعها لتشمل فيسبوك. كانت “ريلز” نسخة شبه مطابقة لتنسيق الفيديو القصير الخاص بتيك توك، تتيح للمستخدمين إنشاء ومشاركة مقاطع فيديو قصيرة مع الموسيقى والمؤثرات.
اعترف زوكربيرج بأن “ريلز” هي جزء أساسي من استراتيجية ميتا الدفاعية ضد تيك توك. ضخت الشركة استثمارات هائلة في تطوير الميزة والترويج لها، ودمجتها بشكل بارز في خلاصات المستخدمين وتجارب الاكتشاف. حققت “ريلز” نموًا سريعًا بالفعل، وأصبحت أسرع صيغ المحتوى نموًا على منصات ميتا.
ومع ذلك، واجهت “ريلز” تحديات كبيرة:
-
تحقيق الدخل (Monetization): استغرق الأمر وقتًا أطول لتطوير نماذج إعلانية فعالة لـ “ريلز” تضاهي ربحية إعلانات الخلاصات والقصص.
-
جودة المحتوى: في البداية، كان الكثير من محتوى “ريلز” عبارة عن مقاطع فيديو معاد نشرها من تيك توك (مع علامتها المائية أحيانًا)، مما دفع إنستغرام إلى خفض ترتيب مثل هذا المحتوى لتشجيع الإنشاء الأصلي.
-
منافسة الخوارزمية: بينما تحسنت خوارزميات توصية “ريلز”، لا تزال خوارزمية تيك توك تعتبر المعيار الذهبي في تقديم محتوى شديد التخصيص والإدمان.
رغم هذه التحديات، تواصل ميتا الاستثمار بكثافة في “ريلز” والذكاء الاصطناعي الذي يدعمها، معتبرة إياها الحصان الرابح في معركتها المستمرة لاستعادة انتباه المستخدمين، خاصة الشباب، وتحقيق نمو مستدام في الإيرادات من الفيديو القصير. مؤخرًا، أطلقت ميتا تطبيق تحرير فيديو منفصل باسم “Edits” لتمكين صناع المحتوى من إنشاء فيديوهات احترافية بسهولة أكبر، في خطوة أخرى لمنافسة أدوات تيك توك (و CapCut).
5️⃣ المستقبل المنظور: هل تستطيع ميتا التغلب على تحدي تيك توك؟
المعركة بين ميتا وتيك توك لم تنته بعد، والمشهد يتغير باستمرار. ميتا أظهرت قدرة على التكيف، فنجاح “ريلز” المتزايد في جذب المستخدمين وتحقيق الدخل يمثل نقطة مضيئة. كما أن قاعدة مستخدمي ميتا الضخمة عبر تطبيقاتها المتعددة (فيسبوك، إنستغرام، واتساب) لا تزال تمثل قوة هائلة ونقطة جذب للمعلنين. إضافة إلى ذلك، تستثمر ميتا بكثافة في الذكاء الاصطناعي ليس فقط لـ “ريلز” ولكن أيضًا لتحسين تجربة فيسبوك الأساسية، مع التركيز على “العودة إلى جذور فيسبوك الأصلية” (OG Facebook) وتعزيز التواصل بين الأصدقاء، كما أعلن زوكربيرج كهدف لعام 2025.
من ناحية أخرى، يواجه تيك توك تحدياته الخاصة، أبرزها الضغوط التنظيمية والسياسية في الولايات المتحدة ودول أخرى، والتي قد تؤدي إلى حظره أو إجباره على البيع. هذا الوضع الغامض قد يمنح ميتا فرصة لالتقاط الأنفاس وتعزيز موقعها.
في النهاية، سيعتمد مستقبل هذه المنافسة على عدة عوامل: قدرة كل منصة على الابتكار وتقديم تجارب مستخدم جذابة، النجاح في تحقيق الدخل من صيغ المحتوى الجديدة، التعامل مع التحديات التنظيمية، والأهم من ذلك، القدرة على فهم وتلبية احتياجات وتوقعات المستخدمين المتغيرة باستمرار، خاصة الأجيال الجديدة التي تشكل مستقبل الإنترنت. الصراع سيستمر، وسيدفع كلا العملاقين إلى تقديم أفضل ما لديهما، مما قد يعود بالنفع على المستخدمين من خلال المزيد من الخيارات والميزات المبتكرة.
خاتمة
يُمثل اعتراف مارك زوكربيرج الصريح بتأثير تيك توك على تباطؤ نمو ميتا علامة فارقة في تاريخ المنافسة الرقمية. إنه يُظهر كيف يمكن لمنصة ناشئة، بفضل الابتكار والفهم العميق لسلوكيات المستخدمين الجدد، أن تتحدى هيمنة عملاق راسخ مثل ميتا. لقد أجبر صعود تيك توك ميتا على إعادة التفكير في استراتيجياتها الأساسية، وتسريع وتيرة الابتكار، والتركيز بشكل غير مسبوق على الفيديو القصير والذكاء الاصطناعي.
من خلال إطلاق “ريلز” والاستثمار المتواصل فيها، أظهرت ميتا مرونتها وقدرتها على الرد، لكن المعركة لا تزال في أوجها. مستقبل هذا الصراع سيشكل ملامح الفضاء الرقمي للسنوات القادمة، وسيحدد من سيفوز بانتباه ووقت المستخدمين، خاصة في الأسواق النامية والحيوية مثل العالم العربي. الدرس المستفاد الأهم هو أن الهيمنة في عالم التكنولوجيا ليست دائمة، وأن القدرة على التكيف والابتكار المستمر هي مفتاح البقاء والنجاح في وجه المنافسة الشرسة والتغيرات المتسارعة.
الأسئلة الشائعة (FAQs)
س1: بماذا اعترف مارك زوكربيرج بخصوص تيك توك وميتا؟
ج: اعترف مارك زوكربيرج بأن الصعود السريع لشعبية تيك توك أدى إلى تباطؤ كبير في نمو شركة ميتا (المالكة لفيسبوك وإنستغرام)، واصفًا تيك توك بأنه تهديد تنافسي “ملح للغاية”.
س2: كيف ردت شركة ميتا على تحدي تيك توك؟
ج: ردت ميتا بشكل أساسي بإطلاق ميزة “ريلز” (Reels) على إنستغرام وفيسبوك، وهي ميزة فيديو قصير تحاكي تجربة تيك توك، بالإضافة إلى زيادة الاستثمار في خوارزميات توصية المحتوى والذكاء الاصطناعي.
س3: هل نجحت “ريلز” في منافسة تيك توك؟
ج: حققت “ريلز” نموًا سريعًا وأصبحت جزءًا مهمًا من استراتيجية ميتا، لكنها لا تزال تواجه تحديات في مطابقة خوارزمية تيك توك الجذابة وتحقيق نفس مستوى الربحية من الإعلانات مقارنة بمنصات ميتا الأخرى.
س4: ما هي العوامل الأخرى التي أثرت على نمو ميتا بجانب تيك توك؟
ج: واجهت ميتا تحديات أخرى تشمل تغييرات سياسات الخصوصية من آبل (ATT) التي أثرت على استهداف الإعلانات، والتباطؤ الاقتصادي العام، والمنافسة من منصات أخرى مثل يوتيوب.
س5: ما هو مستقبل المنافسة بين ميتا وتيك توك؟
ج: المنافسة مستمرة وشديدة. يعتمد المستقبل على قدرة كل شركة على الابتكار، وتحقيق الدخل، والتكيف مع التغيرات التنظيمية وتوقعات المستخدمين، مع احتمالية تأثر تيك توك بالضغوط السياسية في بعض الدول.